أمي يا أمي... كفكفي دموعك واسمعيني... فسأقول كلمتي وأتركك لتكملي صلاتك ...
أنا يا أمي أعرف أن كلامي لا معنى له، ولن يمنع قلبك أن يتقطع على فراق أخي الشهيد... وأن تجري دموع عيونك على فقدان الحبيب .. والله كلنا نشهد كم سهرت الليالي الطويلة.. تعطينه من دمك وعافيتك.. حتى شبَّ ليكون ذلك الرجل.. الذي يتفجر عنفوانا... ويتنفس حرية ويرفع رأسه كرامة.. علمتيه كيف يحب وطنه .. وكيف يحمل سورية في قلبه .. ولذلك تأكدي يا أمي والله إنه ما نزل للساحات متظاهرا سلميا إلا لأنه إنسان حر... فلم يَهُن عليه أن يداس أخوه في البيضا، ولم يتحمل أن يقتل أخوه في درعا، وأن تغتصب أخته في حمص... أرجوك لا تبكي يا أمي فهو والله في عليين مع الشهداء والأنبياء والمرسلين.. أعرف أنك صابرة محتسبة رغم أن قلبك اعتصره الحزن مرة على قتل ثمرة فؤادك وفرحة عمرك... ولكنه طعن ألف مرة حين رأيتهم وقد جرّوه على طول الشارع وضربوا جسده الطاهر .. ولكن لا تحزني فهم مجرمون لا يعرفون حرمة للشهيد ولا هيبة للموت ..
أرجوك يا أم الشهيد سامحيني سأعترف لك بما هو أعظم..أق لقد قتلوه وأنا واقف أرقب غدرهم... لقد صحت لحظتها وأنا أصوره... يااااااارب ارحمنا وصبرنا.. هل في ديارنا من قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة... أليس عندهم أخوة.. ألم تلدهم أمهات....
أرجوك يا أمي ارحميني أنا أعترف لك بكامل حريتي أنني كنت جبانا.. وتركتهم يمثلوا بجسده الطاهر.. وما أدري فربما كانوا يحقدون عليه.. أنه حر وأنهم عبيد.. أنه خالد وأنهم فانون ..
ولكن اسمعيني يا غالية والله إن كل رصاصة دخلت جسده الطاهر كانت قد اخترقت قبل ذلك إنسانيهم وما بقي من شرعيتهم.. لقد أهانت تلك المشاهد وأثرت في قلوب شعب بأكمله .. طعنوه في كرامته .. فكيف سيعيش هانئا بعد اليوم، ذلك المجرم الذي أباح لهم قتله واشترى لهم من قوتنا رصاص غدره، ولكنه حرك بفعلته الشنيعة وكذبه الصريح، إنسانية وتعاطف ملايين من البشر، كلهم شهدوا بذهول تدنيس جثة شهيد على الملء وعلى الشاشات.
آه يا أمي ... والله إني أستيقظ كل صباح فأرى دماء أخي باقية في يدي.. ونظرته الأخيرة واقفة ترقبني .. فما أعجب تلك النظرة حين كانت تودعني وتوصيني... أن أكمل يا حرُّ طريقي، ولا تنسى أن تسلم على أمي...
أرجوك يا أم الشهيد اغفري لي ضعفي وجبني لأني لم أقف في وجه رصاص غدرهم.. ولم أحم أخي من غلهم.. وسأعترف أنني كنت حينها ضعيفا.. وهم كانوا أكثر من وحوش ... ياااااااا الله أليس في قلوبهم مكان لرحمة، يقتلون شابا طاهرا حرا.. كل جريمته أنه نزل لساحات بلده ينادي.. الله.. سورية... حرية وبس.. فهل يحق لكم أن تقتلوا الأحرار يا أيها العبيد..
أتوسل إليك يا أم الشهيد سامحيني وارحمي ضعفي وقلة حيلتي، ولكني أعدك بدمي أني لن أتنازل عن حق أخي.. وسأقف هذه المرة كرجل ... وسأمسح دمعتي، وأنادي وأنا أتظاهر في ساحات بلادي ... وليسمع كل الغافلين ... قال رب العالمين: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. بل أحياء عند ربهم يرزقون)... فليعرف كل الآثمين... إن أخي سيبقى حيا في قلوبنا، وذكرى نابضة في ضمير شعبنا السوري كله، وسنقرأ عليه الفاتحة ونحن نقف صفا واحدا، لنستقبل ذلك اليوم القريب، الذي تطلع فيه شمس الحرية، كفيض من نور باهر، ينتشر في سمائك سورية، فسترقبه ساطعا في سماء درعا.. ومنسابا مع نسيم حمص.. وفواحا مع ورود بانياس.. وستتلهف لعبيره كل مدنك وساحاتك سورية....
يا أم الشهداء لا تحزني لقد عرفنا من هم الأموات... إنهم حفنة من المجرمين ظنُّوا أنهم سيبقون أطول.. لو قتلوا ألف شهيد... وسجنوا مئة ألف حر وشريف، وأخافوا من بقي من شعب العزة والكرامة، ولكنهم والله سيعرفون قريبا أن دماء الشهيد ستكون لعنة عليهم إلى يوم الدين... وأن شبح حريته سيطاردهم في نومهم ويؤرق صحوهم..
أعاهدك يا أم الشهيد ومعي كل أحرار سورية أننا لن ننس ولن نغفر... وسننطلق اليوم على دربه ونحن أكثر إيمانا، أن فجر الحرية قد لاح لنا من بعيد... وأن قلوبنا تنادي.. أقبلي يا حرية.. فقد دفعنا ثمنك غاليا.. أقبلي يا كرامة فها هو ألف شهيد قد سقوا زهورك بدمائهم، وسيحمون براعمك بأرواحهم...
وأخيرا سامحيني يا أمي يا أم الشهيد فقد انتهى وقت كلامي، وستسمعين فقط زمجرة غضبي... فهيا معي يا أيها الأحرار ... لتشاهدوا شمس الحرية وقد أشرقت في بلدي ... سورية يا حبيبتي.
بقلم: ثائر حلبي